خطوة طبية أولى لعلاج اضطرابات نبض القلب بشكل أفضل
في تيبازة لم تعد أمواج البحر الأبيض المتوسط وحدها من تُسمع أصداؤها ، فهناك نبض آخر بدأ يتردد بين جدران المستشفى العمومي وهو نبض الابتكار الطبي. ففي بلد لا تزال فيه الأمراض القلبية الوعائية تحصد أرواح آلاف الجزائريين سنويًا، بدأت بارقة أمل تلوح في الأفق، أين تم لأول مرة في مؤسسة عمومية بنجاح تطبيق تقنية جديدة تُعرف بـ” تحفيز نبضات القلب بطريقة فيزيولوجية “، ولم يكن ذلك إنجازًا تقنيًا عاديًا، بل يمثل نقطة تحول ووعدًا بأن الطب في الجزائر يمكنه هو الآخر أن ينبض على إيقاع التطور العالمي.
عندما يتباطأ القلب، تتسارع وتيرة الطب
علينا أن نتخيل القلب ليس كمضخة بسيطة، بل كفرقة موسيقية دقيقة يقودها مايسترو خفي: الكهرباء. وعندما يحدث اضطراب ما – بطء غير طبيعي، أو إشارة فوضوية – فالجسد يعاني بأكمله، حيث يُعرف هذا الخلل بـ”بطء القلب” (Bradycardie)، وهو مرض صامت لكن خطير. ولعلاجه يلجأ الأطباء إلى زرع جهاز تنظيم ضربات القلب (Pacemaker)، وهو جهاز صغير يصدر نبضات كهربائية لإعادة ضبط إيقاع القلب.
لكن وكما هو الحال مع أي مايسترو مرتجل، قد يُصدر الجهاز التقليدي نغمة غير منضبطة. فالقلب ينبض نعم، لكنه لا ينبض دائمًا بشكل متناغم.
في تيبازة، قلب يستعيد إيقاعه الطبيعي
وهنا تتجلى أهمية الإنجاز التقني الذي حققه مستشفى تيبازة تحت إشراف الدكتور ”يزيد عودية”رئيس مصلحة أمراض القلب، تم اعتماد نهج جديد يعتمد على تحفيز” حزمة هيس” (Faisceau de His)، وهي البنية الكهربائية المركزية في القلب، والتي لا يعرفها عامة الناس كثيرًا، ومن خلال تحفيز هذه الحزمة مباشرة – بدلًا من تجاوز النظام الطبيعي كما تفعل الأجهزة التقليدية – يتم تنظيم ضربات القلب بدقة أكبر، وبشكل أقرب إلى الوظيفة الفسيولوجية الطبيعية.
ما الفرق؟ الفارق دقيق لكنه حاسم، هو الفرق بين المشي والرقص، بين البقاء على قيد الحياة والعيش حقًا، أين يعود نبض القلب إلى انسجامه الطبيعي، دون عناء، دون تعب، ودون اختلال.
استثمار في الصحة العمومية
بطبيعة الحال لهذا الابتكار ثمن وهو 500 ألف دينار لكل جهاز، أي خمسة أضعاف تكلفة جهاز تنظيم ضربات القلب العادي. وهو خيار جريء بالنسبة لمستشفى عمومي، لكن على المدى الطويل قد يكون هذا الخيار مجديًا خاصة مع مضاعفات أقل، استشفاء أقل، وجودة حياة أفضل… وهي معادلة مالية تستحق أن تُدرس برؤية أوسع تشمل أيضًا رفاه الإنسان.
من جهته ينظر الدكتور ”عودية” إلى الأمر بتفاؤل مدروس، إذ أشار إلى أن من أصل 200 عملية تُجرى سنويًا في مستشفى تيبازة، سيُطبق هذا الأسلوب الجديد على 25 مريضًا خلال العام الحالي. ورغم أن العدد يبدو محدودًا، إلا أنه خطوة أولى تبشر بانطلاقة واعدة.
سابقة… ولكنها ليست الأخيرة
وزارة الصحة رحبت بهذه الخطوة بوصفها مرحلة استراتيجية في تحديث منظومة الرعاية الصحية بالجزائر، فبعيدًا عن العملية الناجحة يبرز هذا الحدث كرمز لمنظومة صحية قادرة على الابتكار، التكيف، والسعي نحو التميز.
من جهة أخرى فإن مستشفيات أخرى بدأت تستعد لاعتماد التقنية، وإذا أثبتت النتائج فعاليتها – وكل المؤشرات تدعم ذلك – فقد يُنظر في تعميمها تدريجيًا، بشرط توفير دعم مالي مناسب، وتكوين تقني متخصص.
رؤية ما وراء التقنية
ما أنجزه مستشفى تيبازة ليس مجرد عملية جراحية ناجحة، فهو رسالة قوية للمرضى، وللأطباء، ولصناع القرار مفادها أن الابتكار ليس رفاهية حكرًا على الدول الغنية، بل هو ضرورة وإلحاح وأحيانًا تكفي نبضة واحدة في مكانها الصحيح لإعادة الحياة لمنظومة بأكملها.
في هذا الوطن الذي تتعدد فيه المعارك الصحية وتتعب فيه القلوب كما تتعب الآمال، بات أمرًا مؤكدًا في تيبازة، التي أُثبتت أن قلب الجزائر يمكنه أن ينبض بشكل مختلف، بنبضٍ أكثر دقة وأكثر إنسانية.
الكلمات المفتاحية: جهاز تنظيم ضربات القلب؛ حزمة هيس؛ تحفيز؛ بطء القلب؛ قصور ؛ قلبي.
إقرأ أيضاً: