صحة جيدة لحياة أفضل

الصحة النفسية: انتشار العلاجات المزيّفة والمدربين الوهميين

حرر : شعبان بوعريسة | صحفي
19 أكتوبر 2025

في الوقت الذي تُعلن فيه الصحة النفسية قضية عالمية كبرى لعام 2025، تتكاثر الخطابات حولها، لكن بين مفاهيم الرفاه النفسي والمعاناة الذهنية والطب النفسي، تتلاشى الحدود شيئاً فشيئاً.

التقينا بالباحث في علوم الأعصاب الدكتور “سليم بن لفقي” على هامش مشاركته في صالون الصيدلة بوهران (Pharmex 2025) نهاية هذا الأسبوع، والذي أعاد توضيح المفاهيم ووضع الأمور في نصابها.

أصبحت الصحة النفسية في صميم النقاش العام، من الحملات التوعوية إلى المنصات الإلكترونية للاستماع ، فالكل يتحدث عنها. ومع ذلك أصبح المصطلح واسعاً لدرجة أنه بات يشمل كل شيء: التوتر، القلق، الإرهاق، الحزن، وحتى السعي الدائم وراء السعادة.

يقول الدكتور “بن لفقي” محذراً: «الخطر هو أن نفرغ المفهوم من معناه، فإما أن نُفسر كل شيء على أنه مرض نفسي، أو نقلل من شأنه ونجعله مجرد شعور عابر بعدم الراحة».

ويضيف: «الصحة النفسية ليست غياب المرض فقط بل هي القدرة على العيش والتواصل مع الآخرين ومواجهة صعوبات الحياة».

يؤكد الدكتور “سليم بن لفقي” ضرورة العودة إلى تعريف دقيق للمفهوم، إذ تصف منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية بأنها: “حالة من الرفاه يتمكن فيها الفرد من إدراك قدراته، والتعامل مع ضغوط الحياة العادية، والعمل بشكل منتج، والمساهمة في مجتمعه”.

لكنه يضيف توضيحاً بليغاً: «أفضل تشبيهها برحلة على دراجة هوائية: فيها صعود وهبوط وثقوب في الإطارات… فالتوازن ليس مثالياً أبداً، خاصة وأن الصحة النفسية هي الاستمرار في التقدم رغم العوائق، اعتماداً على مواردك الذاتية».

هذه الرؤية الديناميكية تُبعد الفكرة عن كون الصحة النفسية حالة ثابتة من “الرفاه المطلق”، وتعيد المعاناة النفسية إلى سياقها الواقعي: أحياناً مؤلمة، لكنها دائماً إنسانية.

وقد حوّلت الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المعاناة النفسية إلى فرصة اقتصادية مربحة، ففي غضون سنوات قليلة نشأت صناعة كاملة للـ“رفاه النفسي”، تجمع بين التنمية الذاتية والعلاجات الزائفة والوعود بالسعادة الفورية.

ويُقدّر اليوم حجم السوق العالمي للصحة النفسية والرفاه النفسي بعدة مليارات من الدولارات، وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية ومراكز دراسات اقتصادية، وهذا النمو تغذيه الرغبة المتزايدة في إيجاد حلول سريعة للتوتر والقلق وفقدان المعنى.

يحذر الدكتور ” بن لفقي” قائلاً: «يتم بيع حلول سحرية لكل شيء: الثقة بالنفس، والتحفيز، والطمأنينة… لكن هذه الأساليب لا تستند إلى أي قاعدة علمية أو سريرية متينة». ويضيف أن الإنترنت أصبح يعج بـ“مدربين في المرونة النفسية” و“معالجين بالطاقة” ممن لا يملكون سوى بضع ساعات من التكوين، كما تمتلئ المنصات باختبارات الشخصية ومقاطع الفيديو والنصائح النفسية غير الموثقة علمياً.

وراء هذه الخطابات الجذابة يختبئ خطر حقيقي، أين يقول الدكتور ”بن لفقي”: «الخطر هو أن يتم تبسيط المعاناة النفسية أو إبعاد المرضى عن الرعاية المناسبة». فبعض الأشخاص الهشّين بحثاً عن حلول فورية، يجدون أنفسهم معزولين أو محمّلين بالذنب، ويفقدون وقتاً ثميناً قبل أن يتلقوا العلاج اللازم.

بل إن بعض هذه الأساليب قد تفاقم الاضطرابات النفسية، خاصة عندما تروج لشعارات مثل “إذا أردت، يمكنك”، وهي مقولة خادعة تجعل الناس يعتقدون أن الشفاء مسألة إرادة فقط، في حين أن الاكتئاب، والقلق الحاد، واضطرابات السلوك تتطلب غالباً متابعة طبية ونفسية منظمة.

يختم الدكتور “بن لفقي” قائلاً:«من الضروري إعادة الاعتبار للطب النفسي وعلم النفس السريري»، فالمسألة لا تتعلق بمعارضة التنمية الذاتية، بل بوضع حدود واضحة بين الدعم الحياتي والعلاج الطبي، حيث يؤكد المتحدث : «ليس كل شعور بعدم الراحة مرضاً، لكن بعض المعاناة تنبع من اضطرابات يجب تشخيصها ومعالجتها بشكل علمي» .

تلعب علوم الأعصاب اليوم دوراً محورياً في فهم أفضل للاضطرابات النفسية وآلياتها البيولوجية، فبفضل تقنيات التصوير الدماغي والتقدم الهائل في مجال البحث العلمي، أصبح بإمكان العلماء مراقبة الدوائر العصبية المرتبطة بالعاطفة، والتوتر، والذاكرة، والدافع.

هذه الاكتشافات ساعدت في تحديد الأسباب الفسيولوجية للاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب، والقلق، والفصام، مما سمح بتطوير علاجات أكثر دقة، سواء كانت دوائية أو نفسية علاجية.

ويذكّر الدكتور “سليم بن لفقي” قائلاً: «الصحة النفسية ليست مجرد مسألة إرادة أو موقف ذهني، بل هي أيضاً مسألة بيولوجيا دماغية.»

وتؤكد علوم الأعصاب أن العواطف والسلوكيات لا تنبع فقط من العقل، بل ترتكز على عمليات عصبية معقدة، تتأثر بالعوامل الوراثية والبيئية وتجارب الحياة.

في مواجهة هذا الالتباس يوضح الأطباء النفسيون أن الصحة النفسية ليست بديلاً عن الطب النفسي، بل ميدان أوسع يشمل الوقاية، وعلم النفس، والطب، والجوانب الاجتماعية.

ويشرح الدكتور ” بن لفقي” قائلاً: «الطب النفسي لا يقتصر على معالجة الأمراض الخطيرة مثل الفصام أو الاكتئاب الحاد، بل يساعد أيضاً على فهم الهشاشة النفسية، واستعادة التوازن في الحياة، وإعادة بناء المعنى.» ويرى أن التحدي اليوم يتمثل في إعادة خلق حوار بين الرعاية الطبية، والوقاية المجتمعية، والمقاربات النفسية العلاجية المعترف بها علمياً.

1. لا تنتظر الوصول إلى نقطة الانهيار: الشعور المستمر بعدم الراحة، أو اضطرابات النوم، أو فقدان الطاقة والاهتمام، كلها إشارات مبكرة يجب عدم تجاهلها.

2. استشر مختصاً مؤهلاً: الأطباء النفسيون، وعلماء النفس الإكلينيكيون، والأطباء العامون هم المؤهلون لتقييم الحالة وتوجيهها نحو العلاج المناسب.

3. احذر الوعود الزائفة: لا وجود لطريقة سحرية أو مدرب في ثلاث جلسات، فالصحة النفسية تُبنى على المدى الطويل، ضمن إطار علاجي آمن.

4. نمِّي مواردك الداخلية: النشاط البدني المنتظم، النوم الجيد، التغذية المتوازنة، العلاقات الاجتماعية، وأوقات الراحة كلها ركائز لعقل مرن ومتماسك.

يختم الدكتور ”بن لفقي” قائلاً: «العناية بالصحة النفسية تعني تقبّل الهشاشة كجزء من الحياة، فالصحة النفسية ليست أن تكون سعيداً دائماً، بل أن تعرف كيف تنهض من جديد، تطلب المساعدة، وتعترف بحدودك.»

الكلمات المفتاحية: الصحة ، النفسية ، علم النفس ، الطب النفسي ، النشاط ، العلاج

إقرأ أيضاً: