ثورة في التشخيص المبكر للأمراض العصبية التنكسية

ماذا لو كانت البشرة قادرة على كشف ما يخفيه الدماغ؟ هذا هو الرهان الجريء الذي نجح علميًا اليوم، بفضل فريق من الباحثين البريطانيين الذين طوروا اختبارًا للكشف عن مرض باركنسون… انطلاقًا من عينة بسيطة من الزهم (الدهن الجلدي)، أين تشير أبحاثهم إلى أن الجلد يحتفظ ببصمات كيميائية مبكرة للمرض، قبل ظهور الأعراض الحركية بسبع سنوات كاملة، وهو تقدم علمي من شأنه أن يُحدث تحولًا عميقًا في طريقة التعامل مع المرضى المعرضين للخطر.
مرض صامت… لفترة طويلة جدًا
مرض يتزايد بشكل مقلق في العالم
يُعتبر مرض باركنسون اليوم ثاني أكثر الأمراض العصبية التنكسية شيوعًا في العالم بعد مرض ألزهايمر مباشرة. ووفقًا لبيانات منظمة الصحة العالمية، فقد تضاعف عدد حالات الإصابة بمرض باركنسون خلال 25 سنة، حيث تجاوز عدد المصابين 10 ملايين شخص عالميًا.
هذا الاضطراب العصبي التدريجي الذي يكون غالبًا صامتًا في بداياته يؤدي إلى تدمير بطيء ولكن لا رجعة فيه للخلايا العصبية المنتجة للدوبامين في المادة السوداء للدماغ، وهي منطقة أساسية في التحكم في الحركات. وتلعب مادة الدوبامين وهي ناقل عصبي تنتجه هذه الخلايا، دورًا محوريًا في تنظيم الحركة والتنسيق والتوازن. ومع انخفاضها التدريجي تبدأ أعراض المرض المميزة في الظهور على غرار الرجفان، وتصلب العضلات، وبطء الحركة، واضطرابات التوازن.
وتزداد وتيرة المرض بشكل ملحوظ مع التقدم في السن خاصة بين سنّ 60 و80 عامًا، غير أن هناك حالات مبكرة قد تظهر قبل سنّ الـ50 لا سيما عند وجود عوامل وراثية أو التعرض لعوامل بيئية معينة. وتنذر شيخوخة السكان بارتفاع مستمر في عدد الحالات خلال العقود القادمة، ما يشكل تحديًا حقيقيًا للصحة العامة عالميًا.
تشخيص متأخر في الغالب
ونظرًا لغياب اختبار بيولوجي موحد، لا يزال تشخيص المرض يعتمد بالدرجة الأولى على الملاحظة السريرية للأعراض الحركية مثل الرجفان، وبطء الحركة وتصلب العضلات… والمشكلة أن هذه الأعراض لا تظهر إلا بعد تدمير ما بين 50 إلى 70% من الخلايا العصبية المنتجة للدوبامين، ما يقلل كثيرًا من فرص التدخل الفعال لإبطاء تطور المرض.
نافذة تشخيصية جديدة: الجلد كمرآة للدماغ

الزهم: مصدر غني بالمعلومات البيولوجية القيّمة
يُعد الجلد أكبر عضو في جسم الإنسان وهو على تواصل دائم مع الجهاز العصبي. ويُعتبر الزهم هذه المادة الدهنية التي تُفرزها الغدد الدهنية، انعكاسًا ليس فقط للحالة الهرمونية بل أيضًا لعمليات الأيض الخلوية. ومن خلال تحليل تركيبه الكيميائي بدقة، تمكن الباحثون من اكتشاف مؤشرات حيوية محددة مرتبطة بمرض باركنسون.
وقد أُنجز هذا البحث من طرف جامعة مانشستر بالتعاون مع مستشفى “سالفورد رويال” وجامعة إنسبروك. وباستخدام تقنيات مطورة لتحليل الطيف الكتلي، استطاع العلماء تحديد بصمات كيميائية مميزة في زهم مرضى باركنسون، حتى لدى أولئك الذين لم تظهر عليهم بعد أي أعراض حركية، لكنهم كانوا يعانون من اضطرابات في النوم، والتي تُعتبر غالبًا من العلامات المبكرة للمرض.
توقيع كيميائي قابل للكشف قبل ظهور الأعراض
تشمل هذه البصمات تغيرات في استقلاب الدهون، وتحولات في الأحماض الدهنية، وتعديلات في بعض البروتينات المرتبطة بالإجهاد التأكسدي وهو عامل رئيسي في تدهور الخلايا العصبية. وقد أظهرت الفحوصات أن الأشخاص المعرضين للخطر – دون تشخيص رسمي – يحملون بالفعل بعض هذه المؤشرات، وإن كانت بدرجة أقل وضوحًا من المرضى المؤكدين.
اختبار بسيط، غير جراحي، وواعد

بديل للفحوصات المعقدة
يعتمد هذا الاختبار على أخذ عينة جلدية سريعة، غير مؤلمة، ومنخفضة التكلفة، باستخدام قطعة قطن بسيطة أو لاصق يُوضع على الجلد. وعلى عكس الفحوصات العصبية المعقدة مثل الرنين المغناطيسي (IRM) أو تصوير DAT-Scan، يمكن إجراء هذا الفحص بسهولة في العيادات الطبية، مما يجعله حلاً مثالياً للكشف الموسّع على نطاق واسع.
وتؤكد البروفيسورة ” بيرديتا باران” مديرة المشروع قائلة: «هذه هي المرة الأولى التي يُثبت فيها أن مؤشراً حيوياً جزيئياً في الزهم يمكنه تشخيص مرض باركنسون في مرحلة مبكرة أو قبل ظهور الأعراض». وتضيف: «هذا يفتح الباب أمام الطب التنبؤي، حيث يمكن التدخل قبل ظهور الأعراض».
ما الفائدة للمرضى؟
نحو علاج مبكر وشخصي أكثر
يسمح التشخيص المبكر ببدء العلاجات التخفيفية مثل الليفودوبا بشكل أسرع، أو طرح تجارب سريرية لأدوية تحمي الأعصاب. كما يوفر وقتًا ثمينًا لتعديل نمط الحياة، وإدارة الأعراض غير الحركية مثل القلق، واضطرابات النوم، والهضم، بالإضافة إلى تحضير المريض وأسرته لتطور المرض.
أداة مساعدة لم تُعتمد سريريًا بعد
مع ذلك يشدد الباحثون على أن هذا الاختبار لا يزال في مرحلة التحقق من صلاحيته. فهو لا يحل محل التشخيص السريري، لكنه يُكمل الملاحظات الطبية، وقد يُدمج مستقبلاً ضمن مسارات الرعاية الوقائية، لا سيما للأشخاص المعرضين وراثيًا أو الذين يظهرون علامات مبكرة.
وماذا في المستقبل؟
يعمل العلماء الآن على توحيد هذا الاختبار وتحسين دقة المؤشرات الحيوية والتحقق من فعاليته على مجموعات أكبر من المرضى، في حين أن الهدف النهائي هو تعميم هذا الفحص في المستشفيات، ومراكز الرعاية الأولية، والعيادات المتخصصة. واختتم فريق مانشستر بالقول: «التحدي المقبل هو تحويل هذه الطريقة إلى أداة عملية، قوية، ومتاحة للجميع».
- كثيرًا ما يُشخّص المرض متأخرًا، بعد تفاقم الأضرار.
- يمكن لأخذ عينة من الزهم الكشف عن المرض حتى قبل 7 سنوات من ظهور الأعراض.
- هذا الاختبار غير جراحي، سريع، وقد يصبح أداة قيمة في الطب الوقائي.
الكلمات المفتاحية: باركنسون ؛ مرض ؛ صحة ؛ جلد ؛ جلدي ؛ عينة ؛ علمي ؛ غير جراحي ؛ اختبار
إقرأ أيضاً: