
البهاق بالنسبة للجمهور العام هو في المقام الأول قصة بقع بيضاء تنتشر تدريجياً على الجلد، أحياناً على الوجه، وغالباً تؤثر على تقدير الذات. أما بالنسبة للطبيب، فهو مرض مناعي ذاتي: حيث يهاجم جهاز المناعة الخلايا الميلانينية، وهي الخلايا المسؤولة عن إنتاج الميلانين وإعطاء لون الجلد. منذ سنوات، نعلم أن الإجهاد التأكسدي أي الجذور الحرة التي تتلف الخلايا يلعب دوراً محورياً في هذا التدمير الصامت. وما بدأت الأبحاث مؤخراً في تسليط الضوء عليه هو عنصر طالما تم تجاهله في هذه القصة: الأمعاء، وخاصة العالم الخفي للميكروبيوم الذي يعيش فيها.
مستقلب في قلب اللعبة: حمض الهيبوريك
أظهرت دراسات حديثة على نماذج فئران مصابة بالبهاق تفصيلاً مهمّاً: في البراز، الدم وحتى الجلد لهذه الحيوانات، يظهر مركب يتكرر بشكل ملحوظ، وهو حمض الهيبوريك.
وعند الانتقال من الفئران إلى الإنسان، تتكرر نفس الظاهرة: لدى مرضى البهاق، تكون مستويات حمض الهيبوريك في الدم أعلى مقارنة بالأشخاص الأصحاء.
هذا الحمض ليس مجرد مؤشر سلبي. فهو يتدخل في قلب آليات الإجهاد التأكسدي، من خلال تفاعله مع بروتينات متورطة في إنتاج أنواع الأكسجين التفاعلية (ROS). بمعنى آخر كلما ارتفع مستوى حمض الهيبوريك، أصبح الوضع أكثر ملاءمة للبيئة التأكسدية التي تضعف الخلايا الميلانينية.
عندما يتصدع الحاجز المعوي
تبقى هناك مسألة رئيسية: لماذا يرتفع حمض الهيبوريك؟ الكل يشير إلى نقطة حرجة: الحاجز المعوي.
فالأمعاء السليمة المغلقة بشكل جيد، تسمح بمرور المغذيات لكنها تحجز معظم الجزيئات المحتملة السمية. في حالة الخلل الميكروبي أي عدم التوازن في الميكروبيوم المعوي يصبح هذا الحاجز أكثر نفاذية. حينها يمكن لمركبات كان ينبغي أن تبقى محصورة داخل التجويف الهضمي أن تخترق الحاجز وتصل إلى الدورة الدموية العامة.
كما أن حمض الهيبوريك هو واحد من هذه المرسلين غير المرغوب فيهم. بذلك، يصبح الرابط الكيميائي الحيوي بين الأمعاء المضطربة والجلد الضعيف، ويساهم في إشعال أو استمرار الالتهاب التأكسدي الذي يميز البهاق.
زرع البراز والبروبيوتيك: عندما تؤثر الفلورا على الجلد
للتحقق من أن المشكلة تأتي من الميكروبيوم، استخدم الباحثون طريقة جذرية: زراعة الميكروبيوم البرازي، فمن خلال زرع براز الفئران المصابة ببهاق شديد إلى فئران متلقية، لاحظوا تفاقم فقدان التصبغ، لتكون الرسالة واضحة وهي أن ميكروبيوم “مريض” قادر بمفرده على دفع الجلد نحو الأسوأ.
وعلى العكس فعند إعطاء بروبيوتيك أي بكتيريا نافعة تتباطأ تقدم الآفات الجلدية، وأحياناً تستقر. في بعض النماذج يكفي تعديل الميكروبيوم لتقليل الإجهاد التأكسدي واستعادة جزئية لوظيفة الخلايا الميلانينية.
ووراء هذه التجارب فكرة بسيطة لكنها ثورية مفادها أن تعديل تركيب الفلورا المعوية يمكن أن يغير مجرى المرض الذي كان يُصنف دائماً كحالة جلدية بحتة.
مؤشر حيوي مستقبلي: قياس حمض الهيبوريك
بعيداً عن فهم الآليات، تفتح هذه الدراسات منظوراً ملموساً: يمكن أن يصبح حمض الهيبوريك مؤشراً حيوياً للبهاق، فتخيل في المستقبل إجراء فحص دم يسمح بـ:
- دعم التشخيص في الحالات غير النمطية،
- متابعة نشاط المرض،
- وحتى قياس الاستجابة لاستراتيجية علاجية جديدة تستهدف الميكروبيوم.
بالنسبة للمرضى يعني هذا الخروج من الطب التجريبي أحياناً القائم على المحاولة والخطأ، إلى نهج أكثر تخصيصاً وموضوعية.
نحو طب جلدي “تكاملي”
هذه البيانات لا تلغي بالطبع العلاجات الحالية: العلاج الضوئي، الكريمات المناعية، أو الأساليب المركبة، لكنها تضعها في إطار أوسع، فالبهاق يظهر أكثر فأكثر كمرض جهازي، على تقاطع المناعة، الأيض، الميكروبيوم والحاجز المعوي. في هذا السياق تتشكل مسارات جديدة:
- تعديل النظام الغذائي لتغذية ميكروبيوم أكثر حماية،
- استخدام البريبايوتكس لتعزيز سلالات بكتيرية معينة،
- وصف بروبيوتيك مختار بعناية،
- حصر زراعة البراز، بعد التحقق العلمي، للحالات الشديدة والمقاومة.
ولم يعد العلاج مقتصراً على الجلد فقط، بل يشمل الشخص ككل: ما يأكله، ما تحوله أمعاؤه، ما تنتجه فلوراه وكيف يؤثر كل ذلك على الخلايا الصبغية.
مرض ظاهر ومعاناة غالباً غير مرئية
لا يمكن الحديث عن البهاق دون الإشارة إلى بُعده الإنساني، فالبقع خاصة عند الوجه، اليدين أو فروة الرأس، غالباً ما تصاحبها شعور بالخجل، الانعزال، وأحياناً التمييز، كما أن المرض يقطع بعض المرضى عن حياتهم الاجتماعية، العاطفية أو المهنية.
لذا فإن معرفة أن العلم يتقدم وأننا بدأنا في فك تسلسل الأسباب بدلاً من الاكتفاء بإخفاء الآثار، ليس مجرد تفصيل نظري، بل وسيلة لإعادة الأمل للمرضى، فالأمل في أن يصبح علاج الميكروبيوم، الحاجز المعوي والإجهاد التأكسدي يوماً ما أمراً طبيعياً مثل استخدام كريم أو جلسة علاج ضوئي ، كما أن الأمل لا يزال قائما خصوصاً في أن يتوقف البهاق عن أن يُنظر إليه كقدر جمالي محتوم، ويُعترف به كمرض معقد لكنه قابل للتحكم تدريجياً.
الكلمات المفتاحية: البهاق، الميكروبيوم المعوي، الميكروبيوم، حمض الهيبوريك، الأمعاء، الإجهاد التأكسدي، زراعة بروبيوتيك، بريبايوتكس، طب جلدي تكاملي.
إقرأ أيضاً: