وباء غير مرئي منتشر في كل مكان

تُعرف المواد البيرفلورية والبوليفلورية PFAS ، التي يُطلق عليها لقب “الملوثات الأبدية”، بوجودها في كل مكان: في التربة، ومياه الشرب، والأطعمة، وحتى داخل أجسامنا، إذ أن قدرتها الفائقة على البقاء في البيئة وتأثيراتها الضارة على صحة الإنسان جعلت منها قضية صحية طارئة على المستوى العالمي. ومع ذلك، فإن اكتشافًا حديثًا يمنح بصيص أمل.
تُعرف الـPFAS، أو المواد البيرفلورية والبوليفلورية بأنها عائلة كبيرة تضم أكثر من 4700 مركب كيميائي صناعي. وقد استُخدمت منذ خمسينيات القرن الماضي بفضل مقاومتها للماء والحرارة والدهون.
وتوجد هذه المواد في العديد من المنتجات اليومية: أدوات الطبخ غير اللاصقة، الملابس المقاومة للماء، أغلفة الأطعمة، الرغوات المضادة للحرائق، الدهانات، وبعض مستحضرات التجميل.
لماذا تُسمى “ملوثات أبدية”؟
تُلقب الـPFAS بهذا الاسم لأنها لا تتحلل تقريبًا في البيئة، بل تبقى في الهواء والماء والتربة لعقود طويلة.
والأسوأ من ذلك أنها تتراكم في جسم الإنسان بمرور الوقت، وقد ربطت العديد من الدراسات بين هذه المواد ومشاكل صحية متعددة: السرطانات، الاضطرابات الهرمونية، العقم، أمراض الكلى، الجهاز المناعي، والكبد.
تلوث عالمي غير مرئي
تم الكشف عن مواد الـPFAS تقريبًا في كل مكان على سطح الأرض: في مياه الحنفيات، والمياه الجوفية، والتربة الزراعية، والأسماك، والحيوانات البرية… وحتى في دم غالبية الأشخاص الذين خضعوا للاختبارات، وهذا التلوث غير المرئي يصيب ملايين الأشخاص دون أن يدركوا ذلك.
بكتيريا قادرة على تفكيك المواد البيرفلورية والبوليفلورية

اكتشف باحثون من الجامعة الكاثوليكية في بياتشينسا بإيطاليا بكتيريا قادرة على استخدام مركبات PFAS كمصدر للطاقة، أي أنها قادرة على تفكيك هذه المواد. وقد كُشف عن هذه الأعمال خلال المؤتمر السنوي الخامس والثلاثين للجمعية الأوروبية لعلم السموم والكيمياء البيئية (SETAC Europe)، الذي انعقد في ماي 2025 بفيينا، مما يفتح آفاقًا واعدة لحلول بيولوجية ضد هذا النوع المستعصي من التلوث.
دراسة موقع شديد التلوث
وركزت الأبحاث على مقاطعة فيتشنزا بمنطقة فينيتو، التي تُعد من أكثر المناطق تلوثًا بمركبات PFAS في أوروبا نتيجة تلوث صناعي واسع النطاق. في هذه المنطقة، غالبًا ما تتجاوز مستويات PFAS في مياه الشرب 1 ميكروغرام/لتر، أي ضعف الحد المسموح به من قبل الاتحاد الأوروبي (0.50 ميكروغرام/لتر).
طرق مبتكرة لتحديد الكائنات الدقيقة
قام العلماء بأخذ عينات من التربة في هذه المناطق الحرجة، وحللوا التنوع الميكروبي، ثم عزلوا البكتيريا التي تُظهر قدرة على التحلل البيولوجي. ولتحقيق ذلك استخدموا مزيجًا من الأساليب التقليدية في علم الأحياء الدقيقة وتقنية حديثة تُعرف بـ” métabarcoding”، والتي تتيح تحليل الحمض النووي البيئي وتحديد الأنواع بسرعة في أي عينة.
عملية إثراء لاختيار “آكلات الـ PFAS“
لعزل البكتيريا القادرة على تفكيك مركبات PFAS، استخدم الباحثون عملية إثراء تقوم على زراعة الكائنات الدقيقة في بيئة لا تحتوي سوى على المواد البيرفلورية والبوليفلورية كمصدر للكربون.
النتائج: اكتشاف 20 سلالة بكتيرية، أين تم تحديد 20 سلالة بكتيرية، مع توفر بيانات كاملة عن جينوم كل منها وقدراتها التحليلية.
نِسَب تحلل واعدة
بحسب البروفيسور ”دانييلي بوغليسي” المشارك في الدراسة، نجحت بعض السلالات في تحلل أكثر من 30% من مركبات المواد البيرفلورية والبوليفلورية ، وهي نسبة مهمة نظرًا لصعوبة تحلل هذه المواد. وتُعد هذه النتائج واعدة لاستخدام هذه البكتيريا في عمليات تنظيف بيولوجي موجهة ضد هذه الملوثات الدائمة.
نحو تطبيقات بيوتكنولوجية
تنتمي البكتيريا المكتشفة إلى أنواع معروفة بقدرتها على إزالة التلوث، مثل Micrococcus، Rhodanobacter، Pseudoxanthomonas، وAchromobacter. ويؤكد البروفيسور” بوغليسي” أنها غير ممرضة وسهلة الزرع في المختبر، مما يجعلها ملائمة للاستخدام على نطاق واسع. كما يمكن لتحليل جينوماتها أن يكشف عن جينات رئيسية يمكن استغلالها في عمليات تنظيف بيئية بالتكنولوجيا الحيوية.
تقدم واعد في مواجهة تلوث المواد البيرفلورية والبوليفلورية
رغم أن هذا الاكتشاف ليس حلاً فوريًا، إلا أنه يمثل خطوة مهمة نحو إيجاد علاجات مستدامة لأحد أخطر أنواع التلوث في عصرنا. وقد تُستخدم هذه “البكتيريا المنظفة” في المستقبل لاستصلاح التربة والمياه الملوثة، والمساهمة في بيئة أكثر صحة.
وفي غياب تنظيم شامل… كيف نتجنب الـ PFAS؟
في ظل غياب حظر شامل أو تشريعات صارمة تنظم استخدام المواد البيرفلورية والبوليفلورية على المستوى الوطني أو الدولي، فإن تقليل التعرض الشخصي لهذه المواد يظل صعبًا، إذ إنها موجودة في كل مكان: الماء، الهواء، التربة، الأدوات اليومية، الأغذية، الأقمشة…
ورغم استحالة تجنبها كليًا، إلا أن هناك سلوكيات تساعد في الحد من التعرض:
- اختيار أدوات طبخ خالية من المواد البيرفلورية والبوليفلورية
- تجنب الأواني غير اللاصقة مثل التفلون.
- استخدم السيراميك، الحديد، النحاس، الفولاذ، الألمنيوم الخام.
تنبيه: لكل مادة مزاياها وقيودها (مثل سهولة التنظيف، مدة الاستخدام، التكلفة…).
- الابتعاد عن الأطعمة المعلبة والمغلفة صناعياً
- قلل من استهلاك الأطعمة الجاهزة.
- تجنب الأغلفة الورقية أو الكرتونية الدهنية.
- كن حذرًا من وجبات الوجبات السريعة أو المشتراة من المتاجر الكبرى.
- احذر من نوعية المياه المستخدمة
- لا تشرب ماء الآبار الخاصة دون تحليل مسبق.
- لا تستخدمه لري الخضر والفواكه أو لسقي الحيوانات.
- قلل من استهلاك المنتجات الحيوانية
- خاصة الأسماك الدهنية (كالسلمون والتونة)، المأكولات البحرية، اللحوم، البيض، منتجات الألبان. (فهي قد تحتوي على بقايا المواد البيرفلورية والبوليفلورية والمتراكمة عبر السلسلة الغذائية.)
- اغسل الملابس الجديدة قبل ارتدائها
- هذا يساعد في إزالة جزء من المواد الكيميائية المستخدمة في التصنيع.
- تجنب الأقمشة المعالجة ضد الماء أو البقع
- لا ترتدِ الملابس المقاومة للماء إلا إذا كانت خالية من المواد البيرفلورية والبوليفلورية.
- تجنب بخاخات العزل التي غالبًا ما تحتوي على مركبات فلورية.
- كن حذرًا من الأثاث المعالج “ضد البقع” كالأرائك، السجاد، الستائر…
- استخدم مستحضرات تجميل ومنتجات تنظيف خالية من المواد البيرفلورية والبوليفلورية
- راقب المكونات: تجنب كل ما يحتوي على “fluoro”، “perfluoro” أو “PTFE”.
- اختر المنتجات البيولوجية المعتمدة (مثل Cosmébio) التي تمنع استخدام PFAS.
- تصرّف بمسؤولية في التخلص من النفايات
- لا تلقِ المنتجات التي قد تحتوي على المواد البيرفلورية والبوليفلورية في أي مكان.
- استخدم قنوات إعادة التدوير المتخصصة للحد من انتشارها في البيئة.
رغم الانتشار الواسع للمواد البيرفلورية والبوليفلورية ، إلا أن بعض العادات اليومية البسيطة تساعد في تقليل التعرض الشخصي والحد من أثرها على البيئة. وفي الوقت ذاته يبقى وجود إطار تنظيمي أكثر صرامة وتعبئة جماعية أمرًا ضروريًا لتحقيق إزالة حقيقية لهذا النوع من التلوث على المدى الطويل.
الكلمات المفتاحية: التلوث؛ PFAS؛ المواد البيرفلورية والبوليفلورية؛ البكتيريا؛ الماء؛ الصحة؛ ضار.