استشهد طفل يبلغ من العمر 18 شهرًا بسبب إصابة بسيطة في غزة ، إذ لم يكن الأول ولن يكون الأخير، لكن قضيته التي رواها طبيب طوارئ بتأثر بالغ تجسّد بطريقة قاسية حالة الانهيار التي وصل إليها النظام الصحي في القطاع الفلسطيني، في ظل القصف المستمر، والحصار، ونقص الإمدادات الذي يخنق ما تبقى من مستشفيات لا تزال قائمة.
ومنذ وصوله إلى قطاع غزة قبل أكثر من شهرين يؤكد الدكتور ”طارق لوباني” طبيب الطوارئ الكندي من أصل فلسطيني، أنه لم يشهد من قبل وضعًا بهذه الدرجة من اليأس أين كشف أنه : «لا يمرّ يوم دون أن تواجه المستشفيات نقصًا شبه تام في الدم»
وأكد ذات الطبيب بكثير من ملامح التعب والتوتر من داخل مدينة خان يونس جنوب غزة أن : «الدم هو الحياة وعندما ينقص نُجبر على اتخاذ قرارات غير إنسانية، أين يصبح علينا أن نقرر من سيعيش، ومن لن يعيش» .
طفل مصاب… ودم مفقود
ومن بين الحالات التي لا تفارق ذاكرته حالة طفل صغير لم يتجاوز عامًا ونصف، أين وُجد الطفل وحيدًا بعد غارة جوية استهدفت خيمة كانت تؤوي عائلته قُتل جميع من كان فيها، وبقي هو على قيد الحياة، مصابًا بجرح صغير في ساقه تسبب في قطع شريان.
«كانت إصابة موضعية وكان ينزف، لكن لم يكن أبدًا نزيفًا مميتًا لو أُسعف بسرعة ، كما كان هزيلًا، وواضح عليه سوء التغذية ، كما كان كل ما يحتاجه هو نقل دم .. كيس دم واحد كان كافيًا».
لكن في السياق الحالي في غزة أصبح الحصول على نقل دم أمرًا أشبه بالرفاهية المستحيلة ، ففي ظل غياب بنك دم فعّال غالبًا ما يكون التبرع المباشر من الأقارب هو الخيار الوحيد، لكن الطفل كان قد تيتم على الفور دون قريب يمنحه دمه.
وحاول الطاقم الطبي إيجاد متبرع متوافق دون جدوى. وحتى لو وُجد كان الأطباء يعلمون أنهم غير قادرين على تقديم الرعاية بعد عملية النقل فلا مراقبة، لا علاج، لا مضادات حيوية، ولا حتى ضمادات معقّمة. ..كل شيء مفقود.
يقول الدكتور ” لوباني ” بصوت حزين :«كان من الممكن أن ينقذ هذا الدم مريضًا آخر لديه فرصة أكبر للبقاء على قيد الحياة، فاضطررنا لاتخاذ قرار مروّع ألا نفعل شيئًا… وندعه يرحل ، كنا عاجزين وكنّا نعلم أنه كان من الممكن إنقاذه»،
غزة: حين تتحول المستشفيات إلى أهداف

تقع هذه المأساة الفردية في سياق انهيار شامل للبنية التحتية الطبية في غزة ، ومن بين أحدث الأحداث اللافتة القصف الإسرائيلي الذي استهدف عيادة تابعة للأمم المتحدة في مدينة غزة. هذه المنشأة التي تُعد رمزًا للمساعدة الإنسانية تعرضت للقصف عدة مرات منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023.
ورغم أن الجيش الإسرائيلي أصدر أوامر بإخلاء المنطقة فإنه لم يقدّم أي مبرر واضح لضرب هذه العيادة تحديدًا. وتكرر إسرائيل أن أهدافها تقتصر على عناصر من حركة حماس أو على بنى تحتية عسكرية، لكن لم يتم تقديم أي دليل على ذلك في هذه الحالة.
وكانت العيادة تقوم بدور مركز للرعاية الصحية الأولية بالإضافة إلى كونها مأوى لعائلات نازحة، أين كانت تمثل آخر ما تبقى من سبل الحصول على العلاج لآلاف المدنيين. وتدميرها لم يكن حالة معزولة فقد تم استهداف عدد كبير من المستشفيات وسيارات الإسعاف ومراكز الإسعاف الأولي، مما قلّص بشكل مأساوي من القدرات الطبية المتاحة.
خان يونس: المستشفى الكويتي يحتضر
في خان يونس حيث يعمل أيضًا الدكتور ”طارق لوباني” يحاول المستشفى الكويتي الاستمرار في تقديم الخدمات رغم كل شيء. إلا أن آخر ما تبقى من المستلزمات الطبية قد نفد ويطلق الدكتور ”صهيب الهمص” مدير المستشفى نداءً يائسًا إلى المجتمع الدولي: «وحدة معالجة الجروح مغلقة الآن لم يعد لدينا لا شاش، ولا مطهرات، ولا مضادات حيوية. وكل يوم يصل مئات الجرحى، كثير منهم من مراكز توزيع المساعدات التي تحوّلت إلى أفخاخ حقيقية.. لا يمكننا فعل أي شيء.»
وبسبب غياب الرعاية تتلوث الجروح، ما يؤدي أحيانًا إلى بتر الأعضاء أو الوفاة. حتى أبسط المضاعفات قد تصبح مميتة. ويضطر الأطباء المنهكون والمجردون من الإمكانيات، إلى إجراء عمليات أحيانًا من دون تخدير أو أدوات معقّمة، وفي غرف عمليات تغمرها العتمة.
عندما تصبح الرعاية الصحية قرارًا سياسيًا
وفي جميع أنحاء القطاع انهار النظام الصحي. ليس لأن الكفاءات غائبة بل لأن الوسائل قد فُقدت، فالحرب، والحصار، والقصف الذي دمّر البنية التحتية، ونقص الكهرباء والمياه والأوكسجين والإمدادات اللوجستية… كل هذه العوامل حولت المستشفيات إلى مناطق للبقاء على قيد الحياة فقط.
ويُسلّط الدكتور ”لوباني” الضوء على معضلة قاسية في هذا السياق، فكل إجراء طبي يصبح قرارًا استراتيجيًا. كما أن التبرع بالدم واستخدام مضاد حيوي أو حتى وضع ضمادة كلها أصبحت موارد تُدار كأنها أسلحة وتُستخدم بقدر كبير من الحذر لأنه ببساطة لا تكفي للجميع.
«لا يجب أبدًا أن نُجبر على تحديد من يستحق الحياة ومن لا يستحقها لكن هنا هذا هو واقعنا اليومي، فالأطفال يموتون من إصابات نعرف تمامًا كيف نعالجها ونحن نشاهدهم يموتون.»
إنسانية تُركت خلف الركام
في غزة الطب لم يعد ينقذ الأرواح بل يواكب الأحياء في لحظاتهم الأخيرة، فالأطفال لا يموتون من جروحهم بل من نظام صحي مدمّر ومن غياب الوصول الإنساني ومن صمت دولي يصل حدّ اللامبالاة.
إن حالة الطفل البالغ من العمر 18 شهرًا الذي توفي بسبب عدم توفر نقل دم ليست استثناءً، إذ أنها تجسيد لانهيار طبي منظم حيث لم تعد الحياة تُقاس بقيمتها وحيث أصبح الحق البسيط في العلاج مطلبًا سياسيًا.
الكلمات المفتاحية: غزة، مستشفى، طفل، دم، رعاية، صحة، إبادة جماعية، طبي، حق، علاج
إقرأ أيضاً: