
بعيداً عن كونه علامة على الجنون، فإنّ الحوار مع الذات هو وظيفة طبيعية للدماغ، مفيدة للإدراك والذاكرة وتنظيم المشاعر.
سلوك طبيعي وشائع
أن تفاجئ نفسك وأنت تتحدث وحدك أثناء الترتيب أو القيادة أو التحضير لمهمة مهمة، هو أمر مألوف لدى معظم الناس. وغالباً ما يُنظر إلى هذا السلوك خطأً على أنه دليل على العزلة أو الغرابة، بينما هو في الحقيقة متجذر بعمق في طريقة عمل أدمغتنا.
«عندما نتحدث مع أنفسنا، فإننا لا نفقد عقولنا… بل نستعيدها.»
تُظهر علوم الأعصاب وعلم النفس المعرفي أن التحدث بصوت مرتفع ينشّط نفس المناطق الدماغية المسؤولة عن التفكير الواعي، ولكن بكثافة أكبر. إنه نوع من “إخراج الحوار الداخلي إلى الخارج”، أي عملية ذهنية نستخدمها باستمرار للتخطيط، والتفكير المنطقي، وتنظيم العواطف.
ويشرح علماء النفس العصبيون: «التحدث مع النفس يعني إعطاء صوت لدماغك الذي يفكر، فهو يساعد على توضيح الأفكار، وتنظيم الأفعال، وتقليل القلق.»
امتداد للحوار الداخلي
الحوار الداخلي نشاط معرفي تلقائي فنحن نفكر باستمرار بلغة داخلية. وعندما نتحدث بصوت عالٍ، نحول هذا النشاط العقلي إلى فعل حركي وحسي، مما يعزز التناسق بين الفكر والفعل.كما تُظهر دراسات التصوير الدماغي أن هذا النطق ينشط:
- القشرة الجبهية الأمامية المسؤولة عن التخطيط واتخاذ القرار،
- التلفيف الصدغي العلوي المسؤول عن إدراك الصوت واللغة،
- القشرة الحركية المسؤولة عن إنتاج الأصوات.
بمعنى آخر التحدث بصوت عالٍ يخلق تآزراً بين عدة دوائر عصبية، مما يحسن التركيز والتنسيق والتنظيم العاطفي.
وهذا السلوك يُلاحظ منذ الصغر: فالأطفال عندما يلعبون، يتحدثون تلقائياً لوصف ما يفعلونه. وقد وصف عالم النفس “ليف فيغوتسكي” في بداية القرن العشرين هذا النوع من الكلام بـ«اللغة الأنانية»، واعتبره مرحلة أساسية في التطور المعرفي. أما لدى البالغين فيستمر الحوار الداخلي بشكل أكثر خفاءً، لكنه قد يظهر مجدداً في المواقف المعقدة أو المجهدة.
وسيلة لتعزيز الدافعية والتركيز والذاكرة
النطق بصوت مرتفع يساعد الدماغ على تنظيم وترتيب المعلومات وهذه الاستراتيجية المعرفية تعمل على عدة مستويات:
- تعزيز الذاكرة العاملة: سماع الشخص لكلماته الخاصة يساعد على ترسيخ المعلومات بفضل تنشيط المناطق السمعية واللغوية في الدماغ.
- تحسين التركيز: قول التعليمات بصوت مرتفع «سأرتب الملف الأزرق أولاً، ثم الأخضر» يساعد على الحفاظ على تسلسل المهام.
- التحفيز الذاتي: ترديد عبارات مثل «سأنجح»، «هيا، مزيد من الجهد» ينشّط نظام الدوبامين، المسؤول عن المتعة والمكافأة.
وهكذا فإن التحدث مع النفس يعزز الكفاءة الذهنية في فترات الجهد العقلي الكبير مثل فترات الامتحانات، أو التحضير للخطابات، أو تعلم لغة جديدة، أو حتى أثناء التدريب الرياضي.
مساعدة ثمينة في تنظيم العواطف
من الناحية النفسية، للكلام تأثير مهدئ للمشاعر فعند التعرض للضغوط أو الغضب أو النزاعات، فإن التعبير اللفظي عن المشاعر يساعد على معالجتها بدلاً من الخضوع لها.
وقد أظهر باحثون من جامعة ميشيغان أن التحدث إلى النفس بضمير المخاطب أو الغائب «ستنجح»، «اهدأ» يقلل من حدة التفاعل العاطفي، ويساعد على إدارة التوتر بشكل أفضل.
ويُفسّر ذلك بوجود مسافة معرفية: فعندما يخاطب الإنسان نفسه كما لو كان يخاطب شخصاً آخر، فإن الدماغ ينشّط مناطق مرتبطة بالتعاطف وضبط السلوك، ويقلل نشاط مناطق التوتر مثل اللوزة الدماغية.
باختصار التحدث مع النفس يساعد على أخذ مسافة من الحدث المؤلم، وإعادة صياغته، واستعادة الإحساس بالتحكم.
عندما يصبح الحوار الداخلي إشارة إنذار
في أغلب الحالات التحدث مع النفس سلوك صحي وتكيفي، لكن في بعض الأحيان يمكن أن يشير إلى اضطراب نفسي عندما يصبح مفرطاً أو غير منظم:
- كلام متكرر ومسيطر لا يمكن إيقافه.
- تحقير الذات باستمرار «أنا عديم الفائدة»، «لا أستحق شيئاً».
- التحدث مع أصوات أو كيانات وهمية، خصوصاً عند البالغين.
قد تكون هذه العلامات دليلاً على اضطرابات القلق أو الوسواس القهري أو الاضطرابات الذهانية (مثل الفصام أو بعض الاضطرابات الانفصالية). وفي مثل هذه الحالات تصبح الاستشارة الطبية أو النفسية ضرورية.
ويؤكد الأطباء النفسيون: «ما يميز الحوار الداخلي الطبيعي عن المرضي هو فقدان السيطرة وطابع التسلط على الأفكار.»
عندما تتحول الكلمات إلى أعراض بدلاً من أن تكون وسيلة مساعدة، يجب استشارة مختص.
توصيات الخبراء
للاستفادة من هذا السلوك الطبيعي دون قلق ينصح الأخصائيون بما يلي:
- لا تحكم على نفسك: فالتحدث مع النفس ليس أمراً غير طبيعي.
- استخدم الكلام بصوت مرتفع كأداة معرفية: لتوضيح فكرة أو تنظيم مهمة أو تحفيز الذات.
- اختر كلمات إيجابية ومشجعة لتعزيز الثقة وتقليل القلق.
- راقب محتوى ما تقوله: إذا أصبح سلبياً أو عدوانياً أو متكرراً، تحدّث مع مختص.
ما الذي تعلمنا إياه العلوم؟
تؤكد الأبحاث الحديثة في علوم الأعصاب المعرفية أن الحوار الداخلي والخارجي يعمل كمنظّم شامل للجهاز العصبي:
- ينسّق بين شبكات التفكير والكلام.
- يثبّت العواطف عبر تنشيط القشرة الجبهية الأمامية (مركز المنطق والعقل).
- يحسّن اللدونة العصبية، أي قدرة الدماغ على التعلم والتكيف.
وهكذا فإن التحدث مع النفس ليس دليلاً على اضطراب، بل هو علامة على ذكاء منظم ذاتياً أي أن دماغك الذي يحدثك ليساعدك على الفهم، والهدوء، والتوجه بثقة في هذا العالم.
التحدث مع النفس ليس جنوناً ولا غرابة، بل هو آلية عالمية لتنظيم الإدراك والمشاعر، تساعد على التفكير بوضوح، والتحفيز الذاتي، والتعلم، وضبط العواطف. وعند استخدامها جيداً يصبح هذا الحوار مع الذات أداة قوية للتوازن النفسي والأداء العقلي.
الكلمات المفتاحية: التحدث، النفس، الحوار، الذهن، الدماغ، الصحة، النفسية، العاطفية.
إقرأ أيضاً: