يثير كوكب الزهرة إعجاب العلماء منذ زمن بعيد، وغالبًا ما يوصف بأنه “التوأم الشرير” للأرض بسبب تشابهه من حيث الحجم، والكثافة، والبنية الصخرية. إلا أنه وبالرغم من هذه النقاط المشتركة يتميز كوكب الزهرة بسلوك فلكي مختلف تمامًا، وأكثر ما يلفت الانتباه أنه يدور في الاتجاه المعاكس لمعظم كواكب النظام الشمسي.
كوكب شبيه… لكنه مختلف جذريًا
من منظور القطب الشمالي السماوي تدور الأرض عكس اتجاه عقارب الساعة، كما هو الحال مع المريخ والمشتري. أما الزهرة فتدور في اتجاه عقارب الساعة، وهو ما يُعرف فلكيًا بالدوران التراجعي. هذه الخاصية النادرة جعلت منها موضوع دراسة مثير للاهتمام لدى العلماء منذ عقود.
كوكب يشبهنا… لكنه يسير عكس التيار
ولكن هذا ليس كل شيء فالزهرة تدور أيضًا ببطء شديد، كما أن اليوم الواحد على سطح الزهرة أي مدة دورانها حول نفسها، يُعادل حوالي 243 يومًا أرضيًا، والمفارقة أن سنتها – أي دورتها حول الشمس – أقصر، إذ تستغرق 225 يومًا فقط، والنتيجة على الزهرة، تشرق الشمس من الغرب وتغرب في الشرق، وبوتيرة بطيئة محيرة، وهي الصفات التي تجعلها كوكبًا فريدًا يُطلق عليه بحق “التوأم الشرير” للأرض.
ثلاث فرضيات علمية لتفسير الدوران المعكوس
أمام هذا الدوران العكسي والبطيء غير المعتاد، اقترح العلماء عدة نظريات، لم تُؤكد أيٌّ منها بشكل قاطع حتى الآن، لكنها تسعى جميعًا إلى فك لغز هذا السلوك الكوكبي العجيب.
1. اصطدام هائل: صدمة غيّرت كل شيء
النظرية الأقدم والأكثر شيوعًا تفترض أن جرمًا سماويًا ضخمًا اصطدم بكوكب الزهرة في بدايات تشكُّل النظام الشمسي، مما غيّر محوره الدوراني وربما جعله يدور في الاتجاه المعاكس. سيناريو مشابه يُستخدم لتفسير الميل الغريب لكوكب أورانوس أو حتى نشأة القمر نتيجة اصطدام بالأرض.
لكن رغم اتساق هذه النظرية تبقى موضع جدل، إذ لم يتم العثور على أي دليل مباشر على وجود أثر لهذا الاصطدام على سطح الزهرة، وذلك بسبب غلافها الجوي الكثيف الذي يمحو آثار البنى الجيولوجية القديمة. كما أن بطء دوران الزهرة لا يفسَّر بالكامل عبر هذه الفرضية.
2. الغلاف الجوي الكثيف والمد والجزر الحراري
النظرية الثانية التي تدعمها وكالة ناسا، تقدم تفسيرًا أكثر دقة وهي أن الغلاف الجوي الكثيف بشكل استثنائي هو من تسبب تدريجيًا في إبطاء ثم عكس دوران الزهرة.
فالزهرة تمتلك غلافًا جويًا أكثر كثافة بـ 90 مرة من غلاف الأرض، ومعظمه مكوَّن من ثاني أكسيد الكربون، وتصل درجة حرارة سطحه إلى حوالي 470 درجة مئوية. وتحت تأثير الإشعاع الشمسي يسخن هذا الغلاف بشكل غير متساوٍ بين المناطق المضيئة وتلك المظللة، مما يخلق تيارات هوائية قوية تُعرف بالمد والجزر الحراري، قد تمارس قوة احتكاك على الكوكب نفسه.
وعلى مدى ملايين السنين قد تكون هذه القوى أبطأت دوران الزهرة تدريجيًا حتى توقّف، ثم أعادت تشغيله في الاتجاه المعاكس، ورغم أن هذه الفرضية معقولة لأنها لا تفترض حدوث كارثة كونية، لكنها تعتمد على نماذج مناخية معقدة لا تزال قيد الدراسة.
3. تأثير جاذبية الشمس المباشر
أما الفرضية الثالثة فتركّز على التفاعل الجاذبي القوي بين الشمس والزهرة، الذي يدور على مسافة تقارب 108 ملايين كيلومتر منها. ووفقًا لهذه النظرية فإن قوة جذب الشمس ربما أبطأت دوران الزهرة تدريجيًا بمرور الزمن، فيما يُعرف بـ “تقييد مدّي” أو “الارتباط المدي”.
ومع التباطؤ المستمر قد يكون الكوكب انعكس تمامًا في اتجاه دورانه، ما يفسّر دورانه التراجعي الحالي. ويمكن ملاحظة هذا التأثير في أنظمة كوكبية أخرى، لا سيما في بعض الأقمار التي تقيّدها جاذبية كوكبها المضيف. ومع ذلك فإن هذه الفرضية وحدها لا تفسر بطء الدوران الشديد.
لغز لم يُحل بعد ويتحدّى العلم
حتى الآن لا توجد فرضية واحدة تفسّر بالكامل دوران الزهرة العكسي، فمن المحتمل أن يكون هناك تفاعل معقد بين عدة عوامل على غرار اصطدام قديم، تأثيرات الغلاف الجوي، وتأثير الجاذبية الشمسية طويل الأمد. هذا النموذج المعقّد يُبرز تنوع الديناميكيات الكوكبية، ويؤكد على الحاجة لمزيد من الاستكشاف لفهم أصول النظام الشمسي.
الزهرة… مرآة معكوسة للأرض؟
دراسة الزهرة تعني أيضًا مساءلة حدود معرفتنا حول الكواكب الشبيهة بالأرض. فحرارتها المفرطة، وغلافها الخانق، ودورانها المعكوس كلها أمثلة مضادة تُظهر أن الكواكب المتشابهة في الحجم قد تتطور بطرق مختلفة تمامًا.
ومع تصاعد وتيرة الاستكشاف الفضائي ومهام مستقبلية إلى الزهرة – مثل مهمة VERITAS التابعة لناسا أو EnVision التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية – نقترب أكثر فأكثر من اكتشاف حقيقة لا تزال بعيدة المنال.
درس في التواضع الكوني
يذكّرنا دوران الزهرة التراجعي بأن الكون لا يخضع دائمًا للقواعد التي نظنها ثابتة. هذا الكوكب الغامض، القريب والبعيد في آن واحد، يدفعنا إلى إعادة التفكير في مسلّماتنا، وإلى مواصلة الاستكشاف، وتطوير نماذج أكثر تعقيدًا لفهم تاريخ النظام الشمسي – وربما يومًا ما أصل الأرض نفسها.
الكلمات المفتاحية: الزهرة، كوكب، الأرض، الفلك، جرم سماوي، كوني، كارثي.