يستطيع الطب الحديث تحقيق إنجازات مدهشة على غرار زرع القلوب، تعديل الجينات، تحفيز الدماغ، أو تدريب جهاز المناعة على محاربة السرطان. ومع ذلك لا يزال تصنيع دم بشري تحديًا لم يُحل بعد، ففي عام 2025 لا تزال كل عملية نقل دم تعتمد بشكل كامل على المتبرعين الطوعيين وهو أمر يثير التساؤل، في وقت يحتاج فيه ملايين المرضى سنويًا إلى نقل الدم من أجل العلاج، سواء في الجراحة، أو في علاج السرطان، أو بعد حادث، أو أثناء ولادة معقدة.
إنجاز طبي لا يزال بعيد المنال
وأمام هذا الاحتياج الحيوي وهشاشة المخزون، يبرز تطوير دم اصطناعي عالمي، مستقر، آمن، ومتوافر عند الطلب كالكأس المقدسة للطب الحيوي.
مخابر منخرطة في سباق عالمي
تعمل حاليًا حوالي عشرة مخابر عبر العالم بنشاط على تطوير بدائل للدم. وهدفها الرئيسي هو محاكاة الوظائف الأساسية للدم البشري، لا سيما نقل الأوكسجين، وتخثر الدم، والتوافق التام مع جميع الزمر الدموية. وهو رهان كبير في مجال الطب الاستعجالي والصحة العمومية.

لكن المهمة معقدة، فالدم نسيج حي يتكون من كريات دم حمراء وكريات بيضاء وصفائح دموية وبلازما. ومحاكاة هذه الديناميكية الخلوية في المختبر بكفاءة وأمان، لا تزال تحديًا تكنولوجيًا هائلًا.
اليابان تفتح طريقًا واعدًا
في مارس 2025 أعلن باحثون من جامعة نارا الطبية في اليابان، بقيادة البروفيسور هيرومي ساكاي، عن تقدم كبير وهو دم اصطناعي تم تطويره انطلاقًا من الهيموغلوبين المستخرج من أكياس دم منتهية الصلاحية، والمغلف في حويصلات دهنية تحاكي كريات الدم الحمراء، أين تتميز هذه الخلايا بعدم احتوائها على مستضدات، ما يجعلها متوافقة مع جميع الزمر الدموية، ويمكن حفظها في درجة حرارة الغرفة لمدة تصل إلى عامين.
وبدأت التجارب السريرية منذ عام 2022 على 12 متطوعًا سليمًا، إذ تلقى كل مشارك كمية تصل إلى 100 مل من هذا الدم الاصطناعي، وكانت النتيجة عدم ظهور آثار جانبية خطيرة، ولا استجابات مناعية شديدة، مع تحمل جيد للجسم. ومنذ مارس انطلقت مرحلة ثانية من التجارب شملت 16 شخصًا آخر تلقوا جرعات تصل إلى 400 مل.
ما هي الفوائد؟ وما هي الحدود؟
وإذا أوفى هذا المنتج بوعوده فقد يحدث ثورة في مجال الرعاية الاستعجالية، ومناطق الحروب، والكوارث الطبيعية، أو في المستشفيات النائية. كما يمكن أن يحل مشكلة التوافق بين الزمر الدموية ABO وRh، والتي تسبب العديد من المضاعفات أثناء عمليات نقل الدم.
لكن تبقى عقبات كبيرة:
- مدة حياة قصيرة: البدائل الحالية لا تدوم سوى بضع ساعات، مقارنة بـ120 يومًا لكريات الدم الحمراء الطبيعية.
- التوافق البيولوجي على نطاق واسع لا يزال غير مؤكد.
- تصنيع معقد ومكلف، غالبًا ما يتم باستخدام الخلايا الجذعية أو مكونات حيوية، مما يطرح إشكاليات أخلاقية وتنظيمية.
- مدى قبول المرضى لهذه التقنية لم يُقيَّم بعد.
حالة طوارئ عالمية بسبب نقص الدم
يتم جمع أكثر من 118 مليون وحدة دم يوميًا حول العالم وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. ومع ذلك فإن هذا الرقم لا يكفي لتغطية الطلب المتزايد، فالحاجة الفعلية تقدر بحوالي 150 مليون تبرع يوميًا لتلبية احتياجات نقل الدم عالميًا، خاصة في الدول النامية التي يعيش فيها نحو 70٪ من سكان العالم، بينما لا يُجمع فيها سوى أقل من 40٪ من الدم المتاح.
وفي الجزائر تقدر السلطات الصحية الحاجة اليومية بما بين 1200 و1500 تبرع لتلبية الحاجيات الوطنية، خاصة في الحالات الطبية المستعجلة، ونزيف ما بعد الولادة، والعمليات الجراحية، والأمراض المزمنة مثل فقر الدم المنجلي أو الهيموفيليا. لكن فترات نقص المخزون تتكرر خاصة في أشهر الصيف، وخلال رمضان أو أثناء الأزمات الصحية.
أرواح تُفقد بسبب غياب الدم
أما في البلدان ذات الموارد المحدودة يتم تسجيل أكثر من 500 ألف وفاة سنويًا نتيجة مباشرة لعدم توفر الدم، بحسب منظمة “أطباء بلا حدود”، حيث أين كل من الأطفال، والنساء الحوامل، وضحايا حوادث السير هم أبرز الضحايا، وعلى مستوى العالم فإن وفاة واحدة من كل أربع وفيات للأمهات مرتبطة بنزيف حاد، وغالبية هذه الحالات كان يمكن إنقاذها بعملية نقل دم سريعة. وبالمثل فإن غياب دم متوافق للأطفال المصابين بالملاريا الحادة أو بفقر الدم المنجلي قد يكون قاتلًا.
الزمر الدموية النادرة أكثر عرضة للخطر
تعتبر مسألة التوافق الدموي تحديًا كبيرًا آخر، فبعض الزمر مثل O سلبي (المتبرع الشامل) أو AB سلبي نادرة للغاية ، فقط 7٪ من سكان العالم يحملون O سلبي، وأقل من 1٪ يحملون AB سلبي.
وتنتشر الزمر النادرة أكثر في بعض الفئات السكانية، خاصة في إفريقيا أو لدى الجاليات المنحدرة من أصول إفريقية، ما يزيد من صعوبة حملات التبرع المستهدفة. وفي الجزائر حيث التنوع الجيني كبير، تواجه بنوك الدم الوطنية أحيانًا صعوبة في إيجاد متبرعين متوافقين مع حالات وراثية محددة.
الدم الاصطناعي: حل تكميلي وليس بديلاً
وأمام هذا النقص يُعتبر الدم الاصطناعي تقدمًا استراتيجيًا خصوصًا في حالات الطوارئ، ومناطق النزاع، والمناطق المعزولة، والأزمات الإنسانية. لكنه لا يهدف إلى تعويض التبرع الطوعي، الذي يظل ضروريًا لتلبية الاحتياجات اليومية، حيث أن الهدف منه هو تعزيز قدرات الاستجابة في المواقف الحرجة، وحماية الفئات الأكثر هشاشة، وتوفير بديل عندما تفشل سلسلة التبرع التقليدية.
الزمر الدموية النادرة في شمال إفريقيا: رهان حيوي للصحة العامة
تشهد شعوب شمال إفريقيا خاصة في الجزائر، المغرب، وتونس، تنوعًا جينيًا كبيرًا نتيجة قرون من التمازج بين الأمازيغ، والعرب، والأفارقة جنوب الصحراء، والأوروبيين. إذ ينعكس هذا الغنى الجيني على انتشار مرتفع لبعض الزمر الدموية النادرة، التي قد تكون غير متوافقة مع المخزون الدموي التقليدي المتوفر في بنوك الدم.
حالة عامل ريسوس السالب (Rh)
بينما يحمل غالبية سكان شمال إفريقيا عامل ريسوس Rh إيجابي، فإن حوالي 7 إلى 10٪ منهم يحملون عامل ريسوسRh سلبي. وتُعدّ المضاعفات المرتبطة بهذا العامل حرجة بشكل خاص لدى النساء الحوامل، حيث يمكن أن تؤدي عدم التوافق بين الأم والجنين إلى مرض انحلال الدم الوليدي الخطير، الذي يتطلب نقل دم طارئ بكريات دم حمراء متوافقة.
المستضدات الكروية النادرة
بعض الأفراد يمتلكون أنماطًا نادرة من كريات الدم الحمراء، مثل مستضد كيل Kell سلبي، مستضد دافي Duffy سلبي (Fy(a-b-))، أو زمرة بومباي (hh) النادرة للغاية، لكنها سُجّلت في بعض العائلات بشمال إفريقيا. فهؤلاء لا يمكنهم تلقي سوى دم مطابق تمامًا، مما يجعل رعايتهم الصحية معقدة جدًا، خاصة في الحالات الطارئة أو أثناء العمليات الجراحية الكبرى.
استجابة لا تزال غير كافية
من جهة أخرى فإن معظم دول شمال إفريقيا لا تملك بعد سجلات وطنية للمتبرعين النادرين، ولا شبكات تبرع موجهة حسب النمط الظاهري. وفي الجزائر على الرغم من دعوات السلطات الصحية لتكوين قواعد بيانات خاصة، فإن ضعف الوعي ونقص الإمكانيات اللوجستية يعوق التقدم.
جدير بالذكر أنه يمكن لكل من تطوير فحوصات تحديد الزمر الموسعة، وتكوين احتياطات من الدم النادر، وإنشاء شبكة مغاربية للمتبرعين المحددين، أن ينقذ مئات الأرواح سنويًا.
الزمر الدموية النادرة في الجزائر: حالة طوارئ صامتة لكنها حاسمة
في الجزائر كما في باقي دول المغرب العربي، ينتمي أغلب السكان إلى الزمر O أو A، مع عامل Rh D إيجابي في حوالي 85٪ من الحالات. ومع ذلك توجد نسبة غير ضئيلة من حاملي الزمر النادرة أو غير النمطية، مما يطرح تحديات حقيقية في نقل الدم.
أبرز الزمر النادرة في الجزائر
- Rh D سلبي: حوالي 15٪ من السكان، وهي نسبة أعلى من المعدل العالمي. وتشكل خطورة خاصة لدى النساء الحوامل أو في حالات الحوادث الخطيرة.
- Kell سلبي (K−k+): نادر لكن مهم، فعدم التوافق قد يسبب ردود فعل مناعية خطيرة.
- Duffy سلبي (Fy(a−b−)): شائع لدى السكان من أصل إفريقي جنوبي، ويظهر أحيانًا في المناطق الصحراوية أو لدى السكان ذوي الأصول المختلطة.
- زمرة بومباي (hh): نادرة جدًا في الجزائر (أقل من حالة واحدة من كل 250,000)، وسُجلت في بعض الحالات السريرية. لا يمكن لأصحابها تلقي سوى دم مطابق من زمرة بومباي، مما يعقد علاجهم في غياب سجل وطني.
- Vel سلبي: نادر أيضًا وقد يُسبب مضاعفات عند نقل الدم إذا لم يُكشف عنه مسبقًا.
نقص في الفحوصات المتقدمة
معظم الفحوصات الدموية في الجزائر تقتصر على زمر ABO وRh D. لكن لتفادي المخاطر المحتملة لنقل الدم، من الضروري تطوير الفحوصات الممتدة التي تشمل أنظمة Kell، Duffy، Kidd، MNS وغيرها، مما يُسهم في الكشف المبكر عن الزمر النادرة وضمان معالجتها عند الحاجة.
الحاجة العاجلة لسجل وطني
يعقد عدم وجود سجل مركزي للمتبرعين بالزمر النادرة عمليات نقل الدم للمرضى ذوي الأنماط غير المألوفة. وفي الحالات الطارئة قد يصبح وقت العثور على متبرع مناسب أمرًا حرجًا. لذا، فإن إنشاء سجل وطني للمتبرعين النادرين، مرتبط بمراكز نقل الدم الإقليمية والمستشفيات، يُعدّ ضرورة قصوى.
رهانات الصحة العمومية الجزائرية:
- تكوين الطواقم الطبية لرصد الزمر النادرة.
- تعزيز الفحوصات المتقدمة في بنوك الدم.
- إنشاء شبكة للمتبرعين الموجهين حسب النمط الظاهري.
- توعية المواطنين بأهمية التبرع المنتظم، خاصة حاملي الزمر النادرة.
حلم قديم طالما خيب الآمال
تاريخ الدم الاصطناعي مليء بالآمال وخيبات الأمل، ففي عام 2011 أجرى البروفيسور ” لوك دوي ”في فرنسا أول عملية نقل كريات دم حمراء تم إنتاجها في المختبر من خلايا جذعية. وفي بريطانيا عام 2022، تم حقن خلايا اصطناعية بنجاح. كما شهدت اليابان والولايات المتحدة مشاريع أخرى، لكنها لم تصل بعد إلى الاستخدام الطبي الواسع النطاق.
وفي عام 2017 لخّص البروفيسور ”دوي” الأمر بقوله: “كل المحاولات حتى الآن باءت بالفشل”. إلا أن الإعلان الياباني الأخير أعاد الأمل مجددًا.
2030: هل هو تاريخ واقعي للاستخدام الطبي؟
تأمل المجموعة اليابانية في إطلاق إنتاج صناعي بحلول عام 2030، وإذا أثبتت المراحل القادمة من التجارب فعالية المنتج، فقد تصبح عمليات نقل الدم الاصطناعي واقعًا في أقسام الطوارئ خلال السنوات المقبلة.وقد يكون هذا الدم بلونه البنفسجي المائل هو مستقبل عمليات النقل، كحل مكمل وليس بديلاً عن التبرع البشري. لكن الحذر لا يزال مطلوبًا، فالتبرع الطوعي لا غنى عنه على المدى القريب.
الكأس المقدسة لم تُبلغ بعد، لكنها تلوح في الأفق
بعد حوالي 400 عام من أول عملية نقل دم بشري لم تكن فكرة الدم الاصطناعي أقرب مما هي عليه اليوم. لكن بين الحلم العلمي والحذر الطبي والواجب الأخلاقي، لا تزال الطريق طويلة.
ولم يجهز بعد الدم الاصطناعي ليجري في عروقنا، لكن كل تجربة وكل اكتشاف، يقربنا من تحقيق هذا الهدف، وفي عالم يواجه شحًّا في الموارد لم تكن هذه المهمة العاجلة بهذا القدر من الإلحاح من قبل.