
كشف علماء عن اكتشاف غير متوقّع يحمل دلالات علمية عميقة، تمثّل في رصد نقطة تشابه بيولوجية مذهلة بين مجموعتين تبدوان في الظاهر على طرفي نقيض من الحياة: حديثو الولادة والمصابون بمرض ألزهايمر. فقد لوحظ لدى كلا الطرفين وجود مستويات مرتفعة من بروتين دماغي يُعرف باسم “فسفرة تاو”، وبشكل أدق “p-tau217″، والذي يُعد مؤشّرًا حيويًا معروفًا للانحلال العصبي. ونُشرت هذه النتائج في مجلة Brain Communications، ما قد يفتح آفاقًا جديدة في فهم آليات الدماغ البشري وإمكانيات علاجه.
مؤشر واحد، وظيفتان متناقضتان
في الدماغ البالغ وخاصة لدى كبار السن المصابين بألزهايمر، فإن الزيادة غير الطبيعية في بروتين “p-tau217” تُعدّ إشارة مثيرة للقلق. فعندما يتراكم هذا البروتين بشكل مفرط، يُعطّل وظائف الخلايا العصبية، ويتسبب في تدهورها التدريجي، ويُضعف نقل الإشارات العصبية. لذا فهو يُعدّ مؤشّرًا مبكّرًا على تطوّر المرض، وغالبًا ما يتم اكتشافه قبل ظهور الأعراض السريرية الأولى.
لكن المثير للدهشة أن العلماء رصدوا معدلات أعلى من هذا البروتين لدى حديثي الولادة وخاصة الخُدّج، مقارنةً حتى بمرضى ألزهايمر. ومع ذلك فإن هذه المستويات لا تُعدّ مرضية في هذا السياق، بل على العكس، قد تكون ضرورية لتطور الدماغ بشكل سليم.
تحفيز نمو الدماغ عند الرضّع
بحسب الباحثين فإن الكميات الكبيرة من هذا البروتين لدى الرضّع تُساهم في تعزيز تشكيل الروابط العصبية، وتسريع نمو الخلايا العصبية، وبناء الشبكات الدماغية الناشئة. وتُعدّ هذه الآليات حاسمة خلال الأسابيع الأولى من الحياة، وهي مرحلة نشطة من الناحية الدماغية يتم خلالها تطوير المهارات الحركية والحسية والمعرفية.
ومع مرور الأشهر، تبدأ مستويات “p-tau217” بالانخفاض تدريجيًا حتى تصل إلى معدلات مماثلة لتلك التي توجد لدى البالغين الأصحاء. ما يدل على أن هذه المرحلة من التنظيم البروتيني تؤدي دورًا وقائيًا وبنائيًا في الدماغ.
ازدواجية تُظهر تعقيد الشيخوخة الدماغية
إن هذا الوجه المزدوج لبروتين تاو كونه مفيدًا في بداية الحياة ومضرًا في مراحل متقدمة ، يطرح تساؤلات جوهرية في أوساط علماء الأعصاب وهو: كيف لبروتين يلعب دورًا أساسيًا في التكوين العصبي أن يتحول لاحقًا إلى عامل تدمير؟
بالنسبة للباحث الرئيسي في الدراسة، فرناندو غونزاليس-أورتيز، فإن هذه النقطة تمثل مسارًا بحثيًا واعدًا: “إذا تمكّنا من فهم آلية تنظيم الدماغ لهذا البروتين لدى الرضّع، فقد نتمكّن من محاكاة هذه الآليات لدى البالغين، لإبطاء أو منع الانحلال العصبي.”
بمعنى آخر يكمن الأمل في إعادة تفعيل أنظمة المراقبة والإصلاح الطبيعية الموجودة منذ الولادة لدى الأشخاص المسنين.
نحو مقاربات علاجية جديدة لألزهايمر
يُقدّر عدد المصابين بمرض ألزهايمر بأكثر من 55 مليون شخص حول العالم وفقًا لمنظمة الصحة العالمية. وعلى الرغم من التقدّم العلمي لا يوجد حتى اليوم علاج شافٍ للمرض، بل تُركز العلاجات الحالية على إبطاء تطوّر الأعراض فقط.
إلا أن هذه الدراسة الجديدة تقترح مقاربة مبتكرة تمامًا وهي تقليد آليات تطوّر الدماغ في مراحله المبكرة لمواجهة آثار شيخوخة الدماغ. وقد يُمهّد ذلك الطريق لعلاجات مستقبلية قادرة على منع تراكم بروتين تاو أو استعادة وظائف الخلايا العصبية التالفة.
جزيء واحد، وجهان، وتعقيد واحد
يجسّد بروتين “p-tau217” كل التعقيد الكامن في الدماغ البشري. فهو يلعب دورًا محوريًا في نمو الخلايا العصبية لدى الرضّع، لكنه يتحوّل لاحقًا إلى علامة على تراجع القدرات المعرفية في الشيخوخة. وقد يكون هذا البروتين ذو الوجهين المفتاح لفهم أعمق للشيخوخة الدماغية، وأداة قوية للتدخل العلاجي في المستقبل.
وفي ظل شيخوخة سكان العالم، تبرز أهمية فهم العمليات البيولوجية المبكرة في الدماغ بشكل أدق، كوسيلة لمكافحة الأمراض العصبية التنكسية، وبالتالي هي جسر غير متوقّع بين بداية الحياة ونهايتها، جسر قد يُحدث ثورة في طب الدماغ.
الكلمات المفتاحية: بروتين؛ p-tau217؛ الدماغ؛ الخلايا العصبية؛ رضيع؛ مسن؛ ألزهايمر؛ الصحة