حالة بلا فيروس، بلا عدوى… لكنها تصيب ملايين الأشخاص حول العالم
مع أن قصر النظر ليس مرضاً معدياً، ومع ذلك ينتشر بسرعة وبنطاق يشبه الأوبئة. ففي فرنسا وحدها يُقدّر عدد المصابين بنحو 27 مليون شخص وفقاً لأحدث الإحصاءات. وعلى الصعيد العالمي تتوقع منظمة الصحة العالمية أن يُصاب شخص من بين كل اثنين بقصر النظر بحلول عام 2050.
انتشار مذهل على مستوى العالم
ويُوصَف هذا الارتفاع السريع بأنه “وباء بلا فيروس”، سببه أنماط حياتنا الحديثة: الإفراط في استخدام الشاشات، نقص التعرض للضوء الطبيعي، والعمل لفترات طويلة في رؤية قريبة المدى.
عندما تطول العين، تضطرب الرؤية
يبلغ طول العين لدى البالغين نحو 23 ميليمتراً في المتوسط، أما لدى المصاب بقصر النظر فيكون طول كرة العين أكبر قليلاً، بفارق بضعة ميليمترات فقط، لكن هذا الفرق البسيط كافٍ لتشويش الرؤية، إذ تتكوّن صورة الأجسام البعيدة أمام الشبكية بدلاً من أن تتكوّن عليها، فيصبح كل ما هو بعيد غير واضح.
وهذا الاستطالة ليست مجرد مشكلة بصرية بل تُضعف بنية العين، وقد تزيد مع الوقت من خطر انفصال الشبكية أو الإصابة بالمياه البيضاء المبكرة أو الزَّرَق (الغلوكوما). لذلك من الضروري مراقبة تطور قصر النظر طوال الحياة حتى لو بدا مستقراً.
الأطفال… أولى ضحايا الحداثة
يتفق الأطباء المختصون على أن قصر النظر يظهر في سن مبكرة أكثر من أي وقت مضى، أين يقول أطباء العيون في عيادة العيون “محب الدين” ببرج بوعريريج: “الأطفال يقضون وقتاً طويلاً داخل المنازل، غالباً أمام الشاشات، ولا يتعرضون بما يكفي للضوء الطبيعي”، فالضوء الطبيعي ضروري لنمو العين بشكل سليم، وقد أظهرت الدراسات أن قضاء ساعتين يومياً في الهواء الطلق يقلل من خطر الإصابة بقصر النظر أو يبطئ تطوره.
لذا فإن الأنشطة الخارجية مثل الرياضة والمشي واللعب في الهواء الطلق تعد وسيلة وقائية فعّالة.
استراتيجيات طبية للحد من تطور قصر النظر
من الممكن اليوم إبطاء تقدم قصر النظر بشرط التدخل المبكر، ومن بين الحلول المتاحة بحسب العمر وشدة الحالة:
- قطرات الأتروبين: تُستخدم بجرعات منخفضة لتقليل تطور قصر النظر عند الأطفال، وتحد من استطالة العين دون آثار جانبية خطيرة.
- عدسات تقويم القرنية (Ortho-K): تُرتدى ليلاً لتعديل شكل القرنية مؤقتاً، ما يحسن الرؤية خلال النهار ويبطئ تطور الحالة.
- العدسات أو النظارات “المبطئة” لقصر النظر: تُصمم لتعديل تركيز الضوء، فتوفر تصحيحاً بصرياً مستقراً وتؤثر في الوقت ذاته على نمو العين.
- إعادة التأهيل السلوكي: عبر أخذ فترات راحة بصرية منتظمة، وتقليل وقت استخدام الشاشات (خصوصاً قبل سن السادسة)، وتحسين وضعية القراءة والإضاءة.
مراقبة مدى الحياة

على عكس ما يُعتقد لا يختفي قصر النظر مع التقدم في السن، فحتى لو استقر ما بين 20 و25 عاماً، تبقى العين المصابة أكثر هشاشة. لذلك يُنصَح بمتابعة طبية منتظمة لاكتشاف أي مضاعفات مبكراً، خصوصاً تلك المتعلقة بالشبكية.
يوصي الأخصائيون بـ:
- فحص بصري سنوي للأطفال والشباب المصابين بقصر النظر.
- فحص كل سنتين للبالغين الذين استقرّت حالتهم.
- فحص لقاع العين بانتظام بعد سن الأربعين، لتجنّب أمراض مثل اعتلال البقعة المرتبط بقصر النظر.
نحو ثورة وقائية
يواصل الباحثون جهودهم لفهم الآليات البيولوجية لقصر النظر وتطوير علاجات جديدة، وتتجه الدراسات الحديثة نحو فهم دور النواقل العصبية في الشبكية، وتنظيم الهرمونات المؤثرة في نمو العين، وتأثير الضوء الأزرق الصناعي على إنتاج الدوبامين الشبكي وهو عنصر أساسي لصحة البصر.
يقول الدكتور “سليم بن لفقي” الباحث في علم الأعصاب: “قصر النظر هو انعكاس لعصرنا الحديث فهو يعكس نمط حياتنا الخامل وبيئاتنا المغلقة. فالأمر لا يقتصر على تصحيح الرؤية، بل يتطلب إعادة التفكير في كيفية تفاعل أطفالنا مع العالم البصري من حولهم.”
الوقاية خير من العلاج
مكافحة قصر النظر تبدأ بالوعي والتعليم البصري:
- تشجيع الأنشطة الخارجية اليومية.
- تقليل وقت الشاشة، خاصة قبل سن 12 عاماً.
- الحفاظ على مسافة لا تقل عن 30 سم بين العين ووسيلة القراءة.
- توفير إضاءة طبيعية جيدة أثناء الدراسة أو العمل المكتبي.
- مراجعة طبيب العيون عند أولى علامات إجهاد العين أو تشوش الرؤية عن بعد.
وباء البصر الحديث
رغم أنه غير معدٍ لكن أصبح قصر النظر الوباء الكبير للقرن الحادي والعشرين، كما أنه غير مرئي وصامت، لكنه يغير علاقتنا بالعالم.
لذا فإن المعركة ضد هذا “الوباء البصري” لن تُحسم في المختبرات وحدها، بل أيضاً في بيوتنا ومدارسنا وأمام شاشاتنا، خاصة وأن النظر إلى الأفق يبدأ بخطوة إلى الخارج.
الكلمات المفتاحية: قصر النظر، العين، البصر، منظمة الصحة العالمية، عدوى، مرض، فيروس.
إقرأ أيضاً: