
صناديق بريد إلكتروني مثقلة، إشعارات متتالية، واجتماعات افتراضية متكررة… في عالم مهني أصبح فيه فرط الاتصال القاعدة، لم تعد فوضى المعلومات مجرد إزعاج بسيط، بل تحولت إلى مشكلة صحية عامة. تكشف عدة دراسات أن أكثر من ربع العاملين يصرّحون بأنهم يعانون من الإرهاق المعلوماتي.
كارثة صامتة في المؤسسات المتصلة بالشبكة
ووراء هذا المصطلح الذي لا يزال غير شائع تكمن حقيقة مقلقة: يعاني الموظفون المعنيون من الضغط النفسي والقلق والاكتئاب، فيما اقترب نحو واحد من كل ثلاثة من حافة الاحتراق الوظيفي.
حمولة معرفية مرهقة ذات آثار ملموسة
تولّد الأدوات الرقمية التي صُممت في الأصل لتبسيط التواصل بشكل مفارق تياراً لا ينقطع من المطالب والتنبيهات، أين يقضي الموظف في المتوسط ساعتين يومياً في فرز معلومات غير ضرورية. أما لدى المديرين فيرتفع هذا الرقم بشكل لافت ليصل إلى 290 رسالة بريد إلكتروني يومياً، نصفها تقريباً لا يخصهم مباشرة.
وتتجلى السعة المعرفية الزائدة في:
- تشتت الانتباه،
- صعوبة ترتيب الأولويات،
- تراجع الفعالية في العمل،
- زيادة الأخطاء،
- تعب ذهني مستمر.
فيما تفرض المقاطعات المتكررة جهداً مستمراً لإعادة التركيز إذ قد يحتاج الدماغ أحياناً إلى أكثر من ساعة لاستعادة مستوى الانتباه الأمثل بعد تنبيه رقمي واحد.
عواقب خطيرة على الصحة

لا يقتصر الإرهاق المعلوماتي على خفض الإنتاجية فحسب بل يؤثر أيضاً على الصحة النفسية والجسدية. فالتوتر المزمن، القلق، اضطرابات النوم، الصداع النصفي والتعب المستمر ليست سوى بعض الأعراض الشائعة، وعلى المدى الطويل يهيئ هذا الوضع المناخ المناسب للإصابة بالإرهاق المهني مع ارتفاع خطر الوصول إلى الاحتراق الوظيفي.
أما بعيداً عن الصحة النفسية أصبحت التأثيرات الجسدية مثبتة علمياً وتشمل:
- اضطراب النوم،
- ارتفاع ضغط الدم،
- اضطرابات العضلات والمفاصل بسبب طول وقت الجلوس أمام الشاشات،
- ضعف جهاز المناعة نتيجة التوتر المزمن.
العمل عن بُعد وتلاشي الحدود
أسهم انتشار العمل عن بُعد في تفاقم الظاهرة، فغياب الحدود الواضحة بين الحياة المهنية والشخصية دفع الكثير من الموظفين إلى الرد على رسائل البريد الإلكتروني خارج أوقات الدوام الرسمي.
النتيجة: “رباط رقمي” دائم يمنع أي تعافٍ حقيقي.
ووفقاً لدراسة حديثة يقر عدد من العاملين بأنهم يجيبون عن متطلبات مهنية بعد ساعات العمل ويعترفون في الوقت نفسه بالتعامل مع أمور شخصية أثناء وجودهم في المكتب. هذا التداخل بين المجالين يؤدي إلى حالة جاهزية دائمة تستنزف الذهن وتفاقم الإرهاق العقلي.
العوامل التي تزيد من حدّة الإرهاق المعلوماتي
ثلاثة عناصر أساسية تسهم في تضخيم هذه الظاهرة:
1. ثقافة الفورية: إذ تُعتبر كل إشعار أو رسالة بمثابة أمر عاجل، ما يفرض استجابة سريعة ومرهقة نفسياً.
2. تعدد الأدوات الرقمية: مثل تطبيقات المراسلة الفورية، وبرامج الإدارة، والبريد الإلكتروني، والمنصات التعاونية ، لذا فإن غياب استراتيجية موحدة يؤدي إلى تكرار المعلومات وتعقيد غير ضروري.
3. عبادة تعدد المهام: ما زال يُنظر إليه كميزة في العديد من الشركات، لكنه يثبت أنه غير فعّال وضار بالتركيز.
حماية صحة الموظفين: حلول عملية
في مواجهة هذا الخطر المتنامي يقدم خبراء الصحة المهنية وعلم الأعصاب عدداً من التوصيات:
- ضبط استخدام البريد الإلكتروني والإشعارات: التركيز على الرسائل الضرورية وتقليل المراسلات خارج أوقات الدوام.
- تقليل الاجتماعات: اعتماد أيام خالية من الاجتماعات أو أنماط مختصرة وهادفة.
- احترام حق الانفصال عن العمل: إغلاق الوصول إلى المنصات المهنية بعد وقت محدد، وتشجيع فترات راحة حقيقية.
- تدريب الموظفين: ورش عمل لإدارة تدفق المعلومات، وتقنيات التركيز وتنظيم الأولويات.
- تبسيط الأدوات الرقمية: توحيد المنصات لتجنب التكرار وتحسين سلاسة التواصل.
- تخصيص أوقات للعمل العميق: فترات بلا مقاطعات لتعزيز التفكير الإبداعي.
- مراقبة الصحة النفسية: الكشف المبكر عن علامات التوتر المزمن وتقديم الدعم النفسي عند الحاجة.
تحدٍ محوري لمستقبل العمل
بات الإرهاق المعلوماتي يُعترف به كنوع جديد من مشقة العمل، شأنه شأن القيود الجسدية أو المخاطر الكيميائية. ومن ثمّ يجب أن تصبح الوقاية منه أولوية في سياسات الصحة المهنية.
أما بالنسبة للشركات التي تأخذ هذا التحدي على محمل الجد لا تحسن جودة الحياة في مكان العمل فحسب، بل تعزز أيضاً الإنتاجية، الابتكار، والاحتفاظ بالمواهب.
وفي العصر الرقمي يُعد إيجاد التوازن بين الكفاءة التكنولوجية والصحة النفسية للموظفين تحدياً استراتيجياً لا غنى عنه.
المفتاح واضح: وضع الإنسان في صميم التحول الرقمي.
5 عادات تحدّ من الإرهاق المعلوماتي
للموظفين:
1. ترتيب الأولويات: التمييز بين المهام الأساسية والمطالب الثانوية.
2. إدارة الإشعارات: إيقاف التنبيهات غير العاجلة وتخصيص أوقات محددة لفحص البريد الإلكتروني.
3. ممارسة “العمل العميق”: تخصيص 1 إلى 2 ساعة يومياً دون انقطاع (مع إيقاف الهاتف والرسائل).
4. احترام أوقات الراحة: تجنب الشاشات مساءً ووضع طقوس للانفصال عن العمل قبل النوم.
5. العناية بالصحة: أخذ استراحات منتظمة، شرب الماء، وممارسة نشاط بدني خفيف لتخفيف التوتر.
للمدراء والشركات:
1. تقليل رسائل البريد الجماعية: الاكتفاء بالرسائل الضرورية والواضحة.
2. تحسين الاجتماعات: تحديد جدول أعمال دقيق، تقليص مدتها، واعتماد أيام بلا اجتماعات.
3. تشجيع حق الانفصال عن العمل: تذكير الفرق بعدم توقع ردود خارج أوقات الدوام.
4. التدريب على الممارسات الرقمية الصحية: توعية حول إدارة تدفق المعلومات والوقاية من التوتر.
5. القدوة الحسنة: المدير الذي يحترم قواعد الانفصال عن العمل يشجع فريقه على الالتزام بها.
الكلمات المفتاحية: عمل؛ اتصال؛ صحة؛ معلومات؛ إرهاق؛ معلوماتي.