
تعرف الملاريا بنوباتها الحادة من الحمى الشديدة، وقد تتطور إلى شكل أكثر خطورة وهي الملاريا الدماغية ، أين يمكن أن تترك هذه المضاعفة الشديدة التي قد تكون مميتة، آثارًا عصبية ثقيلة على الناجين، لا سيما الأطفال. ولفهم أفضل للآليات التي تؤدي إلى هذا الشكل الدماغي، قام مجموعة من الباحثين الفرنسيين بدمج تقنيتين متقدمتين للتصوير لرصد التغيرات التي تحدث في دماغ الفئران المصابة وذلك بشكل مباشر.
تقنيات تصوير لاستكشاف الدماغ المريض
أُجريت الأعمال البحثية بقيادة فريق ”أنجيلا فيولا” في مركز الرنين المغناطيسي البيولوجي والطبي (CNRS، مارسيليا)، حيث تم استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي (IRM) للكشف عن الشذوذات الهيكلية في الدماغ، وبالإضافة إلى ذلك ساعدت تقنيات التحليل الطيفي بالرنين المغناطيسي (SRM) في متابعة الاضطرابات الأيضية المرتبطة بالعدوى. كما تم اعتماد النموذج التجريبي على طفيلي قريب من ذلك الذي يسبب الملاريا لدى الإنسان، مما يؤدي إلى نوع مماثل من الملاريا الدماغية في الفئران.
حاجز دماغي متضرر ودماغ يفتقر للأوكسجين
من خلال دراسة دماغ الفئران المصابة بالملاريا الدماغية، لاحظ العلماء تدهورًا في الحاجز الدموي الدماغي. هذا الحاجز الذي يلعب دورًا أساسيًا في الظروف الطبيعية، يعمل كفلتر انتقائي بين الدم والدماغ، مانعًا العوامل الممرضة والسموم أو المواد المسببة للالتهابات من الوصول إلى الأنسجة الدماغية. لكن في حالة العدوى الشديدة، يتعرض هذا الحاجز للتلف، كما تظهر شقوق دقيقة مما يجعل الحاجز قابلًا للاختراق. وبالتالي تدخل جزيئات كانت محجوزة عادةً إلى الدماغ مما يسبب التهابًا وأضرارًا للخلايا العصبية.
في الوقت ذاته لاحظ الباحثون ظاهرة مقلقة أخرى وهي انخفاض كبير في إمدادات الأوكسجين في الشعيرات الدموية الدماغية. وهي الأوعية الدقيقة التي تتحمل مسؤولية تزويد الخلايا العصبية بالدم، والتي لا تتمكن بعد الآن من تأمين تدفق دموي كافٍ. نتيجة لذلك تجد بعض مناطق الدماغ نفسها في حالة نقص أكسجين، أي في حالة “نقص الأوكسجين”، والجدير بالذكر أن الخلايا العصبية هي خلايا حساسة للغاية لهذا النقص، فعندما تُحرم من الوقود الأساسي، تتوقف عن العمل بشكل صحيح ثم تتدهور.
إن تضافر هاتين الإخفاقات – حاجز دماغي أصبح قابلا للاختراق وتدفق أكسجين غير كافٍ – يخلق بيئة معادية للدماغ، وهو الاختلال الذي يعزز الالتهاب، والأضرار غير القابلة للعلاج، وفي الحالات الأكثر شدة وفاة الخلايا الدماغية مما يفسر جزئيًا شدة الملاريا الدماغية.
الوذمة الدماغية، عامل رئيسي في الوفيات
من أهم الاكتشافات في هذه الدراسة هو وجود وذمة دماغية ضخمة وهي مضاعفة مدمرة، أين تشير الوذمة إلى تراكم مفرط للسوائل في الأنسجة، مما يتسبب في تورم كبير في الدماغ، في حين تؤدي هذا الظاهرة إلى الضغط على الشرايين الدماغية، مما يعطل بشكل كبير الدورة الدموية، وكنتيجة لهذا الضغط يصبح تدفق الدم الذي كان قد تضرر بالفعل بسبب تلف الحاجز الدموي الدماغي ونقص الأوكسجين أكثر محدودية. في هذه الحالة تجد الخلايا العصبية نفسها أكثر فقرًا من الأوكسجين والمواد المغذية، مما يجعل وضعها أكثر خطورة.
هذا الاختلال في الأوعية الدموية يؤدي إلى سلسلة من العواقب الدرامية، فمع تقدم الوذمة تتعرض الهياكل الدماغية لضغط هائل مما قد يؤدي إلى أضرار لا يمكن إصلاحها، بل وفي بعض الأحيان الوفاة الدماغية. وقد لاحظ الباحثون أن هذه الوذمة الضخمة مرتبطة بشكل مباشر بوفاة الفئران المصابة بالطفيلي المسبب للملاريا، وهي الظاهرة التي تثير القلق بشكل خاص لأنها تقلل بشكل كبير من فرص البقاء على قيد الحياة.
هذا وقد تم نشر هذه الأعمال في “مجلة علوم الأعصاب”، مما يكشف آلية لم تكن موثقة جيدًا في دراسة الملاريا الدماغية ،وتوضح هذه النتائج أن الوذمة الدماغية تلعب دورًا حيويًا في تطور المرض القاتل، مما قد يفتح الطريق إلى آفاق علاجية جديدة. والهدف سيكون التدخل بشكل أسرع لتجنب أو الحد من هذا التورم، مما يقلل من مخاطر الأضرار الدماغية غير القابلة للإصلاح.
عواقب وخيمة على الأطفال
افترض فريق الباحثين أن الآليات التي لوحظت في الفئران المصابة بالطفيلي قد تكون مشابهة لتلك التي تحدث لدى الإنسان. وفي الواقع فإن الملاريا الدماغية هي شكل عدواني للغاية من المرض، وتصيب بشكل رئيسي الأطفال الذين يعيشون في المناطق الموبوءة حيث تكون الملاريا متوطنة. وهو الشكل الدماغي من الملاريا هو الأكثر خطورة وغالبًا ما يظهر بأعراض عصبية شديدة، مثل التشنجات، والغيبوبة، وفي الحالات الأكثر خطورة أضرار لا رجعة فيها في الدماغ.
منظمة الصحة العالمية: “7% من الأطفال الذين ينجون من الملاريا الدماغية يعانون من اضطرابات عصبية دائمة”
تقدر منظمة الصحة العالمية أن نحو 7% من الأطفال الذين ينجون من الملاريا الدماغية يعانون من اضطرابات عصبية دائمة، وقد تتجسد هذه الاضطرابات في عجز معرفي يؤثر على قدرة التعلم والتذكر، بالإضافة إلى اضطرابات حركية قد تضر بالتنسيق والاستقلالية، كما قد يظهر الأطفال الذين يعانون من هذه المضاعفات تأخيرات في النمو الحركي والعقلي، مما يؤثر على جودة حياتهم على المدى الطويل.
تسلط هذه العواقب الوخيمة الضوء على أهمية العلاج السريع للملاريا الدماغية للحد من الأضرار الدماغية والآثار العصبية طويلة المدى، وقد تفتح الأبحاث الجديدة حول الآليات المرتبطة بهذا الشكل من المرض آفاقًا لعلاجات أكثر استهدافًا وفعالية، مما يساهم في تقليل المعاناة وتحسين التوقعات للأطفال الذين تأثروا بهذه الحالة المدمرة.
الكلمات المفتاحية: الدماغ؛ الملاريا الدماغية؛ الأطفال؛ الأبحاث.